منظومة الحليب قطاع سيادي خانه القرار السياسي

قرار الزيادة في سعر الحليب جاء في الوقت الضائع وفشل في إعادة التوازن للقطاع
ارتفاع قياسي في كلفة الإنتاج وانهيار الدينار ساهم في تعميق الأزمة
عاشت منظومة الحليب خلال السنة الحالية على وقع أزمة حادة وغير مسبوقة أثرت بصفة مباشرة وسلبية على كل الحلقات من الإنتاج إلى التجميع والتصنيع والترويج
ورغم أن هذه الأزمة كانت متوقعة ونبه إليها اهل المهنة منذ بداية السنة فإن الأجهزة الرسمية تعاملت مع مختلف التحذيرات ببرود كامل وتجاهل تام ليصل في الأخير قطاع الحليب إلى طريق مسدود ويتوجه جهاز الإنتاج نحو الانهيار وتصبح تربية الأبقار في بلادنا مهنة خاسرة وعبئا ثقيلا على الفلاحين
وبالعودة إلى الوراء أي إلى ما قبل استفحال الأزمة نذكر أن قيادة الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري عبر بياناتها الرسمية وتصريحاتها الإعلامية قامت منذ شهر فيفري 2018 بدق ناقوس الخطر والتحذير من امكانية دخول المنظومة في نفق مظلم ومنعرج خطير يصعب الخروج منهما
وفي الوقت الذي كان فيه المهنيون في انتظار تحرك عاجل من الحكومة لضخ جرعة من الأوكسجين في المنظومة حتى تقوى على الصمود طال انتظارهم حتى استنزفت طاقاتهم واضطر الكثير منهم إلى التفريط في قطيعهم
وحتى القرار الحكومي الذي جاء في الوقت الضائع عبر الترفيع في سعر الحليب على مستوى الانتاج من 766 مليم إلى 890 مليم فإنه لم يكن له تأثير يذكر في إعادة التوازن إلى أحد أهم القطاعات في بلادنا وهو قطاع الألبان الذي يمثل مورد رزق أساسي لما لا يقلّ عن 112 ألف مربّي ويوفّر 11% من قيمة الإنتاج الفلاحي و7% من قيمة الصناعات الغذائية
أزمة غير مسبوقة
مقارنة بالأزمات السابقة التي عاشتها منظومة الألبان والتي كان مردّها أساسا تهريب جانب من إنتاج الحليب المصنع نحو الجزائر (2007) و ليبيا (2012) فأن الأزمة الحالية تعتبر غير مسبوقة ولا مثيل لها باعتبار طول مدتها وارتباطها بعوامل كثيرة ظرفية وكذلك هيكلية
290 مليار خسائر المربين بين سبتمبر 2017 وأوت 2018
ووفقا لدراسة أنجزها الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري حول وضعية منظومة الألبان فإن السبب الأول في استفحال أزمة الحليب واضطرار مربّي الأبقار الحلوب إلى التّفريط في جزء أو جلّ أو كلّ القطيع يرجع إلى انعدام الجدوى المالية للنشاط بسبب الهوّة الآخذة في الاتّساع بين كلفة الانتاج بالضيعة والسّعر المرجعي الإداري.
فغلاء كلّ مستلزمات الإنتاج وارتفاع الأجر الفلاحي من ناحية وارتفاع مستلزمات العائلة الريفية من ناحية ثانية كلها عوامل كانت وراء هذا الاتساع المذكور.
تطور أسعار أهم عناصر الكلفة من الانتاج إلى التصنيع
عناصر الكلفة | بداية 2017 | بداية 2018 | الفارق | نسبة الزيادة % | ||||
العلف المركب عند المربي (د/طن) | 740 | 900 | 160 | 20% | ||||
القرط (د/بالة) | 9.5 | 11.5 | 2 | 21% | ||||
التبن (د/بالة) | 6 | 8.5 | 2,5 | 42% | ||||
الأراخي (د/رأس) | 5800 | 7500 | 1700 | 29% | ||||
المازوط (د/لتر) | 1.140 | 1.485 | 0.345 | 30% | ||||
الحرث (د/ساعة) | 20 | 25 | 5 | 25% | ||||
البذر (د/ساعة) | 25 | 35 | 10 | 40% | ||||
اليد العاملة (د/اليوم) | 17 | 20 | 3 | 18% | ||||
الأدوية البيطرية | 30 % | |||||||
النقل (أ. د/شاحنة) | 44 | 49 | 5 | 11 % | ||||
مواد التعليب (د/لتر) | 0.250 | 0.328 | 0.078 | 31 % | ||||
كلفة التعليب (د/لتر) | 0.222 | 0.234 | 0.012 | 5% |
(المصدر دراسة للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري)
زد على هذا هناك عنصر خارجي دخل على الخطّ يكمن في ارتفاع سعر الأراخي المؤصلة، نتيجة غلاء كلفتها في مواطنها الاصلية،وهو ما دفع فلاحي بلد مجاور إلى البحث عن الأبقار الحلوب في السوق التونسية،حيث أغرت الأسعار المعروضة بعض مربّي الأبقار الحلوب على التفريط في جزء من قطعانهم،وهو ما ساهم في دونية النسب الفنية للتعويض أو نسب نمو القطيع(taux d’accroissement)وممّا زاد الطّين بلّة ارتفاع نسبة الذبح العشوائي للأبقار،الذي مردّه نقص المراقبة في ظرف اختلّ فيه العرض وزاد الطلب وهو ما نتج عنه تراجع في حجم القطيع بأكثر من 20000 وحدة أنثوية من السلالات المؤصلة (حوالي 9 % من القطيع المنتج).
وإضافة إلى هذا الخلل في مسارات الانتاج،تدخّل عنصر آخر زاد من حدّة اللّاتوازن في المنظومة ويكمن في العامل المناخي حيث مرت بلادنا للسنة الرابع على التوالي بظروف مناخية صعبة تميزت بقلّة الأمطار وعدم انتظامها وهو ما أثر سلبا على المتوفرات من الموارد العلفية المحلية التي تراجعت بصفة حادّة حيث مرّ إنتاج العلف الأخضر من 2370 ألف طنا في 2017 إلى 1700 ألف طنا في 2018 مسجلا بذلك تراجعا بنسبة 28 بالمائة
ومن ناحية اخرى ونظرا لارتباط قطاع الحليب في تونس بتوريد جل مكونات الإنتاج فإن الانهيار الذي شهده الدينار التونسي مقارنة بالعملات الأجنبية و خاصة الدولار واليورو (تراجع سعر صرف الدينار مقابل اليورو بحوالي 32 % خلال الفترة المتراوحة بين جانفي 2017 وسبتمبر 2018) أدى إلى ارتفاع قياسي في كلفة توريد المواد المستعملة في إنتاج الحليب على غرار الأعلاف والأدوية البيطرية والميكنة الفلاحية ومواد التعليب ووسائل النقل وغيرها.
اعتماد سياسة تحديد السعر عند البيع كإجراء لحماية المستهلك أربك جميع حلقات المنظومة
وكل هذه الزيادات المشطة والمتتالية في كلفة مستلزمات الانتاج تجاوزت الامكانيات المادية للمهنيين وأضعفت قدرتهم على الصمود ومواصلة النشاط وهو ما انجر عنه اختلالات كبيرة في التوازنات المالية لمختلف الحلقات رغم قرار تحيين الأسعار خلال شهر جويلية 2018
كلفة الانتاج والتجميع والتصنيع قبل وبعد تحيين الأسعار يوم 7 جويلية 2018
التصنيع | التجميع | الإنتاج | ||
قبل 7 جويلية 2018 | ||||
1344 | 944 | 990 | معدل الكلفة ( مليم/ل) | |
1076 | 819 | 766 | سعر البيع ( مليم/ل) | |
268 – | 125 – | 224 – | الفارق ( مليم/ل) | |
175 | 70 | 0 | دعم الدولة ( مليم/ل) | |
93 – | 55 – | 224 – | قيمة العجز ( مليم/ل) | |
7 % | 6 % | 22.6 % | نسبة العجز | |
بعد 7 جويلية 2018 (مع مراجعة سعر الكلفة عند المربي) | ||||
36 | 20 | 124 | قيمة الزيادة ( مليم/ل) | |
54 – | 38 – | 130- | قيمة العجز ( مليم/ل) | |
3.7 % | 3.5 % | 12.75% | نسبة العجز |
المصدر دراسة للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري)
وأمام اتساع الهوة بين الكلفة وسعر البيع فقد سجلت منظومة الحليب على خسائر فادحة على مستوى الانتاج بلغت قيمها الجملية 290 مليون دينار في الفترة الممتدة بين سبتمبر 2017 وأوت 2018
سياسة سعرية غير مواكبة
تشكل سياسة الأسعار والدعم المعتمدة حاليا عائقا حقيقيا أمام المحافظة على توازنات المنظومة و تطورها، إذ أن اعتماد سياسة تحديد السعر عند البيع كإجراء لحماية المستهلك أربك جميع حلقات المنظومة، حيث أصبحت الفلاح ينتج “بالخسارة” وعجزت المركزيات ومصانع الأجبان على الخلق والابتكار وتطوير معروض الحليب ومشتقاته ومكافأة الجودة والجهد على مستوى الإنتاج والمساهمة في خلق الثروة وإحداث مزيد من مواطن الشغل و دفع الاستثمار.
قرار توريد الحليب ضربة أخرى لجهاز الانتاج الوطني
سعر الحليب على مستوى الاستهلاك في تونس يعتبر الأقل مقارنة ببلدان الجوار والبلدان الإفريقية
وعلى خلاف الدعوة التي وجهتها المهنة بضرورة إنجاز إصلاح هيكلي للمنظومة واتخاذ قرارات شجاعة لإنقاذ قطاع الحليب فقد لجأت الدولة إلى الحلول السهلة والظرفية عبر برمجة توريد 10 مليون لتر من الحليب المصنع نصف الدسم بأسعار مرتفعة تصل إلى حوالي 1900 مليم للتر الواحد ودعمه لفائدة المستهلك بحوالي 780 مليم للتر الواحد ليتمّ ترويجه بنفس أسعار الحليب المصنع محليا ( 1120 مليم/لتر)
وقد مثل هذا القرار ضربة جديدة لجهاز الانتاج الوطني الذي يبقى في حاجة عاجلة وأكيدة لضبط سياسة سعرية مجزية خاصة أن سعر الحليب على مستوى الاستهلاك في تونس يعتبر الأقل مقارنة ببلدان الجوار والبلدان الإفريقية وغيرها
مقارنة أسعار الحليب المصنع على مستوى الاستهلاك ببعض البلدان (د.ت/لتر)
البلد | معدل الأجر اليومي (د.ت) | سعر 1 لتر حليب
(د.ت) |
نسبة سعر لتر الحليب من الأجر اليومي |
تونس | 21.700 | 1.120 | 5.16 % |
موريتانيا | 28.190 | 3.870 | 13.72 % |
المغرب | 36.870 | 1.890 | 5.12% |
مصر | 13.460 | 1.770 | 13.15% |
اثيوبيا | 21.170 | 2.460 | 11.62% |
رواندا | 22.360 | 1.590 | 7.11% |
الكامرون | 22.860 | 5.220 | 22.83% |
الرأس الأخضر | 24.780 | 2.250 | 9.08% |
الباكستان | 21.490 | 2.070 | 9.63% |
الفيليبين | 25.740 | 3.840 | %14.91 |
أوكرانيا | 18.560 | 1.620 | 8.72% |
(المصدر دراسة للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري)
الحلول المقترحة
إزاء الوضع الدقيق الذي تمرّ به جميع حلقات المنظومة، فإنه أصبح من الضروري التدخل لاتخاذ إجراءات عاجلة تتمثل أساسا فيما يلي:
- الترفيع العاجل في تسعيرة الحليب على مستوى الإنتاج إلى حدود 1 دينار للتر الواحد لتجاوز صعوبات ارتفاع الكلفة وحث المربين على إيقاف نزيف التفويت في القطيع خاصة إثر ارتفاع سعر العلف المركب في 3 مناسبات بعد الزيادة في سعر الحليب خلال شهر جويلية 2018 إلى جانب مراجعة منحة التجميع المخصصة لمراكز التجميع و منحة الاستغلال.
- اتخاذ إجراءات عملية وملموسة لتوفير الأعلاف ودعمها لفائدة جميع المربين دون استثناء.
- وضع آجال محددة لإخراج حليب الشراب نصف الدسم من منظومة الدعم وتوظيف الدعم المرصود بعنوان الاستغلال (حوالي 200 مليون دينار لدعم الاستهلاك) وتوجيهه للنهوض بحلقة الإنتاج واعتماده في تمويل برامج عملية لتنمية الانتاج المحلي من الأعلاف وإحداث صندوق الصحة الحيوانية والترفيع في حجم وحدات الإنتاج والتبريد بالضيعة الذي يعدّ حلاّ مناسبا لتحسين الجودة البكتريولوجية التي تمثّل العائق الأكبر حاليا في ضمان استقرار الحليب على مستوى الإنتاج ومابعد التصنيع على حدّ السواء مع التشجيع على إنتاج الأراخي محليا.
- مراجعة حوكمة المنظومة من خلال تمكين المهنة المشتركة من القيام بهذا الدور وتحمل مسؤولياتها في النهوض بالمنظومة إذ تؤكد تجارب الدول الناجحة التي تمتلك منظومات ريادية في قطاع الألبان ومشتقاتها أن مختلف هذه النجاحات ترتبط أساسا بوجود مهنة مشتركة ذات ادوار قيادية وتمتلك كفاءة عالية في إدارة هذه المنظومة مقابل دور حكومي قوي في مستويات الرقابة والتوجيه مع العلم أنه على امتداد العقود الماضية تمّ تحجيم هذا الدور المهني لصالح هيمنة قوية للهياكل الإدارية التي عادة ما تصطدم بحواجز وعوائق سياسية خاصة عند إدارة الأزمات كما هو الحال لهذه السنة.
- التوجه التدريجي نحو حقيقة الأسعار في نطاق برنامج يضمن التحيين الدوري للسعر عند الإنتاج حسب الكلفة يضاف لها هامش ربح معقول بما يكرّس تنافسية فعلية بين المركزيات ويدفعها نحو الخلق والابتكار.
إذ لا يعقل أن تكون الأسعار محدّدة مسبقا في حين أن أسعار مختلف عناصر الكلفة تخضع لمتغيرات السوق المحلية والعالمية التي تشهد ارتفاعا متواصلا وهو ما يحتّم اعتماد مبدأ ديناميكية الأسعار من خلال ربط أسعار الحليب لكل حلقة بعناصر الكلفة.
سعر الحليب على مستوى الإنتاج لا يجب ان يقل عن 1 دينار